Table of Contents
إلغاء الحصانة النيابيّة جزءٌ من استقلاليّة القضاء وعدم الإفلات من العقاب


الياس كسّاب
جريدة الحرة ـ بيروت
تستوقفنا إحالة وزير الاقتصاد في الحكومة السابقة أمين سلام إلى التحقيق، ووزير الصناعة في الحكومة نفسها جورج بوشيكيان أيضاً، والدعوة لرفع الحصانة النيابيّة عنه، على خلفيّة تهم فساد (ونحن لا نتخذ أحكاماً مسبقة من صحة، أو عدم صحة الاتهامات)، ونعتبر أنّ ما يحصل خطوة في الاتجاه الصحيح، يقوم بها القضاء والمجلس النيابي، في ظلِّ حكومةٍ جعلت الإصلاح في صُلب بيانها الوزاري، تحت أنظار الدول الصديقة للبنان، والتي تعتبر، هذا الإصلاح، بنداً أساسيّاً موازياً لنزع السلاح، وحصر قرار الحرب والسلم بالدولة، في عمليّة تقييمٍ قد تعيد لبنان إلى خارطة الدول المحترمة، أو تبقيه على أرصفةِ الدول المارقة مُتسوّلاً فُتات مائدة الشرق الأوسط!
نحن لا نريد أن نعتقد أن ما يحصل هو مُجرّد “همروجة”، و”دفعة” يتيمة على الحساب للمجتمع الدولي، اختير لها وزيران، ربما، تخلت مرجعيّاتهما عنهما، في الوقت الذي يسرح ويمرح فيه نوّابٌ ووزراء مدعوّون إلى التحقيق في واحدة من أبشع الجرائم التي شهدها لبنان في تاريخه الحديث، عنيت انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، والذي أدى إلى مقتل 230 من الأبرياء، وآلاف الجرحى، وتدمير نصف العاصمة. ونحن، وعلى بعد أيام قليلة من الذكرى، نرى أنّ هذا التحقيق لا يزال مُعطّلاً، والنواب والوزراء المطلوبون يرفضون المُثول أمام القاضي بيطار، مستندين إلى الحصانة النيابيّة التي لم يُقدِم مجلس النوّاب على نزعها، لأنّ هؤلاء من “المحظيّين والمحميّين”، وبالمقارنة، جريمة فساد، وإنْ كانت “لا تُغتفر” “فقتلُ شعبٍ آمنٍ” لا يمكن أن تكون “مسألةً فيها نظر”!
الحصانة تحوّلت إلى جدران لحماية الأقوياء من تحقيق العدالة
المفترض بالحصانة النيابيّة أن تُمنح لحمايةِ النائب في التعبير عن مواقفه السياسيّة، خاصّةً إذا كانت مُعارضة للسلطة، لكي تُحصّن العمليّة الديمقراطيّة، وتُصوّب عمل المجلس النيابي، في التشريع، والمُراقبة، والمحاسبة. أمّا في لبنان، فإنّ الحصانة تُستخدم لعرقلة التحقيقات القضائيّة، والتمييع في ملفّات الفساد، والتستّر على جرائم جنائيّة وسياسيّة، والتهرّب في قضايا تمسّ المال العام، وأخطرها، حماية من يعرّضون الأمن القومي والوطني والسلم الأهلي للخطر، ويتسبّبون بالحروب والويلات، ويأتمرون بقوى خارج الحدود، فيخرجون من “مغامراتهم” “أبطالاً” في الوقت التي تصبح فيه تُهم “العمالة” انتقائيّةً لإرهاب المعارضين!
لا حصانة ضدَّ الحقيقة
انفجار مرفأ بيروت كشف عورة المجلس النيابي، ولا “أوراق تين” تستطيع أن تسترَها، فهو لم يُدمّر العاصمة فقط، بل زلزل ركائز المنظومة الفاسدة، وجعلَ السكوت خيانة، والتراجع عن الحقّ جريمة بحقّ الإنسان والوطن، وجاءت الحرب الأخيرة لتُطلق رصاصة الرحمة على “الحماية” المافياويّة الرسميّة لمسلسلِ الإفلات من العقاب، والحافل بكلّ الاتهامات التي غطّتها “الحصانات”، فعلى مدى سنوات، وفيما سُرقت أموال لبنان، وودائع اللبنانيّين، مُقيمين ومغتربين، وقفت الحصانة درعاً سميكاً بوجه الشفافية لكشف ثروات كبار المسؤولين وكبار رجال المال التي هُرّبت إلى الخارج، وعرقلت التحقيقات في تورّط نوّاب وسياسيّين نافذين في عمليّات تهريب المازوت والطحين المدعومين من المال العام إلى سوريا، بينما كانت طوابير الذلّ تملأ محطات الوقود والأفران، وغطّت الفساد في الإدارة العامّة، وكانت وراء جعل لبنان ساحةً للجريمة المُنظّمة، والجريمة السياسيّة، وتهريب المخدرات، وتبييض الأموال، وتدمير النظام المصرفي والاقتصادي، وخلق نظامٍ ماليٍّ واقتصاديٍّ رديف.
كلُّ ذلك اعتماداً على يأس اللبنانيّين، وانصياعهم، وتفتيتهم طائفيّاً، ومذهبيّاً، وغرائزيّاً، فإذا لم تنجح “الحصانة” في التغطية على الجريمة، نُقعِد اللبنانيّين عن الحق عبر التهديد بالفوضى، أو بالترهيب إذا لزِم الأمر!
لا يا سادة،
إذا أردنا أن نؤسّس لدولة القانون، لا بدّ من حصر الحصانة بما يُقال أو يُعلن تحت قبّة البرلمان، أو في سياق عمل النائب الرقابي والتشريعي، أما القضايا الماليّة، والجنائيّة، والإداريّة، فهي لا يجب أن تخضع لأيّ استثناء.
تعديل القوانين مطلوب لملاحقة النوّاب، والوزراء، والرؤساء أمام القضاء، أسوةً بالدول التي تحترم العدالة، فلا حصانة أو حماية لأحد في هذه الدول!
أنظروا ترامب في أوج قوّته يُستدعى إلى المحاكم، وينظر القضاء في قراراته!
أوليس من المُخجل، مثلاً، أن يُحلّلَ كُتّابُنا وصحافيّونا كلّ يوم قضيّة استدعاء ناتنياهو إلى المحكمة بتهمة فساد، وهو يقود حرباً، فلا يقارنون بين “حصانة” رئيس وزراء العدو، وأيّ سياسيٍّ عندنا؟!
تعديل القوانين مطلوب كي تصبح الحصانة ساقطة تلقائيّاً تحت تُهمِ جرائم، دون تصويت في المجلس النيابي، ممّا يُعزّز استقلاليّة القضاء، والذي بدوره، عليه أن يبرهن أنّه مُستقل، ومُتمسّك بمبدأ فصل السلطات، وعليه أن يلغي المحاكم الاستثنائيّة، كالمحكمة العسكريّة التي استعملت مِراراً كأداة لتركيب الملفات، والانقضاض على المعارضين، إذا أردنا أن يكون “العدل أساس المُلك”!
العدالة ليست ترفاً، بل أساس وجود الدولة الحرة والسيّدة والعادلة، وليست انتقائيّةً، أو انتقاميّة، ولا تُوزَّع كامتيازاتٍ على أصحاب السلطة، بل الجميع في خدمتها كي تقوم في لبنان دولة. إنّ المُرتَكِب لا يستطيع أن يكون مُمثّلاً للشعب، أو مسؤولاً عن إدارة مؤسّسات الوطن، وبالمنطق الدستوري: لا حصانة ضِدَّ الحقيقة.
باحث سياسي واغترابي/تورونتو
نقلا عن الحرة