إذا سئمتم من المنظومة ألحِقوها بما ومن شئتُم، عسى يتحرّر لبنان


الياس كسّاب
جريدة الحرة ـ بيروت
شكراً توم برّاك، أنعشتَ ذاكِرتنا الوطنيّة، ذكّرتنا أنّ بيننا والاستقلال أزمِنةً من الخُنوع، وأنّ الوصايات إذا خرجت من الأرض، فهي راسخةٌ في بعض النفوس، فكأنّ لبنان المُستقِل لم يبلغ سِنّ الرشد بعد!
لا أدري ماذا أخبرَك والدُك، أو جدُّك، عن الهجرة والأسباب، أعرف أنّك وُلدت سنة 1947، أي أنَّ عمرَك يقارب عمر استقلال لبنان، وأن عائلتك متحدرة من زحلة، وقد غادَرَت لبنان في أواخر القرن التاسع عشر (بحسب المَراجع)، فلعلّ في ذاكرتك الزحليّة العائليّة معاناة اللبنانيين أيّام المُتصرّفيّة، وما سبقها من مجازر، ومن صراع مع وُلاة السلطنة العثمانيّة في الأقضية المنزوعة عن لبنان، خاصةً والي الشام الذي استُتبِعت له قرى قضاء زحلة والبقاع، هذه الأقضية كلّها أعادها البطريرك الحويّك إلى “لبنان الكبير” سنة ٠٢٩١.
عدتَ، توم برّاك جونيور، إلى لبنان، تمثّل أهمَّ قوّةٍ عالمية، عنيت الولايات المتحدة الأمريكيّة، وكأنّي بك، ولوهلة، قد تفاجأت، فما أخبرك عنه ذووك لم يتغيّر، فلعلَّ الواقع اللبناني المُذري أنعش لديك ذاكرة أهلك التي كانت مُتعطشة للحريّة، وساعية للعيش الكريم، وحرّك في مخيّلتكَ يأسهم وغضبهم من سلوك بعض اللبنانيين انبطاحاً أمام “الباب العالي” ووُلاتِه، وهالَكَ، ربما، أنّ الأسماء في هذا الشرق الحزين تغيّرت، ولكنَّ الطاغية واحد، ولمّا يزل جاثماً على العقول، وأنّ بعضَ اللبنانيّين سفسطائيّون، يتقنون “فـنَّ” الكلام، وقلوبهم خانعة، فالوصايةُ لديهم مرضٌ عُضالٌ لوّث فكرهم، وضميرنا الوطني، وجعلنا ضحايا شعورنا التاريخي بانعدام النُضج!
لقد هال بعضَنا ما قلتَه، عزيزي توم، عن إلحاق لبنان بدولة الشام إذا ما سئمَ العالم منّا!
عفوكَ، لا ضرورةَ كي تسارع إلى النفي، فنحن أساساً مُلحقون!
لقد سفح بعضُنا أقلامه والدماء على مذبح الدكتاتور، بأشكاله المختلفة، وتحت كل العناوين البرّاقة: القوميّة، والتحريريّة، والتقدميّة، والوطنيّة.. وحتى الدينيّة! من عبد الناصر، إلى صدّام، إلى آل الأسد، إلى القذافي.. وانتهاءً بالوليِّ الفقيه، فجعلوا لكلّ دكتاتورٍ دماً يُسال، وحبراً رخيصَ المقال، وقميص عثمان واحد: تحرير فلسطين! وكلمّا سقط طاغية، فتشوا عن طاغيةٍ آخر يعظّمونه، يبجّلونه، ويسفحون كرامتهم وكرامتنا على مذبحه، ليستعينوا به على الآخرين في الوطن! بالأمس، في الـ ٥٠٠٢ ، وفي أوج ثورة الأرز والحركة الاستقلاليّة لإخراج نظام الأسد الجاثم على الصدور، ألم يخرج من نغّص على اللبنانيين فرحهم، ومعه الآلاف في 8 آذار، في مشهديّة “شكراً سوريا”؟!
لا تعجبنَّ، سعادة السفير، بعضنا منفصم، أخلاقيّاً وسياسيّاً، فليس غريباً، مثلاً، أن ترى الصحافة في بلدان الأنظمة التوتاليتاريّة والتيوقراطيّة والفاشيّة حولنا مُكبّلة، ومضطهدة، ونرى هذا الكمَّ الهائل من الأقلام في لبنان تهلّل لها، فتفرش من الحجج الفارغة ساعاتٍ من النقاش والكتابة في الدفاع عنها؟! فليس في طهران، ولم يكن في القاهرة، ودمشق، وطرابلس.. قبلاً، من يدافع عن هذه الأنظمة أكثر من الصحافة الصفراء في بلادنا! فلا غروَ، إذا ما أعلن الطاغية نصراً بعد هزيمة، أصبح نصراً محسوماً عندنا! صدّقني، إنَّ صمتَ الشعب الإيراني المُعذّب، قبلَ الحرب، وبعدها، لهو أهمُّ وأبلغ من كلِّ ما يُحكى، ويُكتب، ويُقال في عواصمِ دولِ المُمانعة!
أستحلفكَ، بالدمِ الأصيل الذي يجري في عروقك، بتَعَبِ والديك وجدّك، بغضبِهم، بعتبهِم، بنفحةِ الحُرّيةِ في كلِّ روح مُغترب، بالوعدِ الذي قطعناه على أنفسنا كمنتشرين بأننا، وإنْ هجرنا الأرض، فلن نغادر الوطن، باسم الشهداء الذين خضّبوا، وبالآلاف، أرضَ لبنان ليسقط الطاغية، كلُّ طاغية، واذكُر بأنّكَ ابنُ زحلة التي صانت حدود الجبل الحر في زمن أجدادِك، ودحرت ولاة الشام: والي العثمانيّين، وطغاة البعث، هم خرجوا، وهي بقيَت! وباسمِ الذين ما زالوا ينتفضون، بالرغم من الاغتيالات والإرهاب، والذين يؤمنون بأنّ لبنان مساحة حُريّة عاموديّة، لا أفقيّة، وهي عصيّة على المتغيّرات الجيوسياسيّة، باسم كُلِّ ما تقدّم: ألا ألحِقوا المنظومة السياسيّة اللبنانيّة الفاسدة بما، ومن تشاؤون، بوالي عكا ناتنياهو، بوالي الشام الجديد أحمد الشرع، بوالي بيروت خامنئي، أو بجهنّم إذا أردتم، ولكن اعلموا أنّ هناك في لبنان دائماً جبلٌ مُتمرّد، وشعبٌ عنيدٌ وحر، ومن كلّ الطوائف، سيُخرِج “الولاة” الجدُد، وستحرقُ الحريّة بنارها المُقدّسة من يستغلّها، وستعود بيروت منارة الشرق، وبالطبع، لن نكون أبداً أرقاماً في دفتر الربح والخسارة للشرق الأوسط الجديد!
باحث سياسي واغترابي/تورونتو
نقلا عن الحرة