حصرُ السلاح واستقلاليّة القضاء متلازمان: السيادة لا تكتمل ما لم تتّسع للحق


الياس كسّاب
جريدة الحرة ـ بيروت
xxxx حدثان مهمّان وتاريخيّان اخترقا جمود الترقُّب في الأسبوع المُنصرم: تجديد خطاب القسَم من قبل رئيس الجمهوريّة في عيد الجيش، بنسختِه الواضحة والصريحة والمباشرة، والتصويت على قانون استقلاليّة القضاء في مجلس النوّاب.
ما قبلَ خطاب الرئيس، وما بعد التصويت على القانون، أتى خطاب الشيخ نعيم قاسم كأنّه استعارات قديمة بدون روح، باهتاً وخافتاً، لأنّه من تحتِ الرُكام يأتي، رُكام الجنوب والضاحية والبقاع، ورُكام العاصمة التي دمّرها انفجار الرابع من آب، والذي تعامى حزب الله عن رؤيته، وأصمّ أذنيه عن سماعه، فأدار ظهره لدماء الأبرياء، واجتاح قصر العدل بسوط السلاح مهدّداً ومُتوعّداً لحماية المجرمين، والمتورطين من منظومة الفساد حليفته وحاميته، وكاد أن يشعل الفتنة في عين الرمانة في عمليّة الهروب إلى الأمام لولا حكمة الجيش وحزمه، واستمرّ في الإنكار حتى هدمَ الهيكل على رأسه، ورؤوس اللبنانيّين، ولمّا يزل مُتأبّطاً سرديّته القديمة، فكأنّ السطوة مرضٌ فكريٌّ عُضال يصعبُ الشفاء منه!
لقد حلّلوا دماءنا عامةً، ودماء الشيعة اللبنانيّين خاصّةً، على مذبح الوليّ الفقيه الذي يتشبّث بنظامه، وبنفوذه، على حساب دم الشعوب دون أن يرفّ له جفن!
في 4 آب قال اللبنانيّون المقهورون كفى، وبعد حرب الإسناد استكمل القهر زحفه في العقول التي كانت، حتى الأمس القريب، في حالة الانبهار الذي أعمى القلوب والبصائر، فلقد سقطت كلُّ الرهانات الخاطئة، والإيديولوجيّات “الإلهيّة”، وتوحّدنا، يا للأسف، تحت الردم، ولكنّ بعضنا اعتاد الاستثمار بالمآسي، ولمّا يزل يُغامر، لا بل يُكابر!
كفى،
كفى استكباراً، فلن يُنقذكم وينقذنا إلّا الدولة الحرّة، دولة الدستور والعدالة والقانون، لا دولة المنظومة الفاسدة التي تواطأت، وتواطأتم معها!
لقد جعلتم من لبنان نسخةً مُصغّرة عن إيران: جمهوريّة لها رئيس، ولكن لها “مُرشدها”، ولها جيش، ولكن لها “حرسها الثوري” أيضاً، أعطيتم اللبنانيين “شكل الدولة”، وصادرتم كلّ شيء، حتى أقدارنا! ولكن نسيتم أنّ ما يصحّ في إيران لا يصحُّ في لبنان، فهو عصيّ، لأنّه روحٌ، ومساحة فكرٍ وحريّة، لا تقوى عليها الاحتلالات!
فيا شيخ نعيم، لست المُرشد الأعلى، ولن تكون، وحرسك الثوري، بمؤسّساته العسكريّة، والماليّة، والاقتصادية، والذي جعلتموه القوّة الموازية للدولة في الأمن والاقتصاد، باء بالفشل، ومشروعكم سقط، ولن تستطيعوا أن تنفضوا عن تاريخكم غبار الدمار والانهيار!
لقد أفلت قدرُ اللبنانيين من براثنكم، فلن يسمحوا لكم بعد اليوم باللعب على حافّةِ الهاوية خدمةً للديكتاتور!
بين حصر السلاح والعدالة
في الرابع من آب، لا نُحيي ذكرى انفجارٍ فقط، بل نواجه واقعاً مريراً لبلدٍ انفجرت فيه الحقيقة، وتراكمت فيه الأكاذيب!
انفجار مرفأ بيروت لم يكن حدثاً عَرضيّاً، بل لحظةً مفصليّةً كشفت وهَنَ السلطة، ووجهها القبيح في آن، وجعلت بيروت، سيّدة العواصم، تصرخ، لا من الألم فقط، بل من الخذلان.
فإذا كان حصر السلاح بيد الدولة انتصاراً لسيادة الوطن، فالعدالة لبيروت هي الانتصار الأعمق، لأنّها انتصارٌ للإنسان فيه، فلا كرامة لوطن يُدفنُ فيه الضحايا، وتُدفن معهم الحقيقة، ولا معنى لسيادة يُحاصرُ فيها القضاء، وتُعطّل فيه المُحاسبة، ويُمنع فيه القاضي من النطق باسم العدالة!
فأيُّ دولةٍ تلك التي تخشى من القاضي أكثر ممّا تخشى من المجرم؟
لقد قادت الدولة، وبكلِّ قِواها، المعركةَ ضدَّ العدالة، والرهان على العهد الجديد، والحكومة الجديدة، لأن يتحوّل الرابع من آب من ذكرى موتٍ إلى محطة ولادةٍ جديدةٍ لهذه الدولة.
فلا دولة بدون سيادة.
ولا سيادة بدون عدالة.
ولا عدالة بدون قضاء مستقل.
ولا قضاء مستقل بدون شعبٍ يرفض المساومة على الحقيقة.
قانون استقلالية القضاء على المحك، والقرار الظنّي المُرتقب هو الامتحان الكبير.
بالأمس رُفعَت لوحة قرب مرفأ بيروت كُتبَ عليها: “شارع ضحايا الرابع من آب”، نعم إنهم ضحايا، ضحايا الإجرام والإهمال والدولة الفاسدة، وغداً، إذا ما انتصر الحق، تزهر الدماء عدالةً، ساعـتـئـذٍ فقط يتحوّل الضحايا إلى شهداء!
باحث سياسي واغترابي/ تورونتو
نقلا عن الحرة