“قطوع” برّاك لم يمُرّ بعد، واقتراع المغتربين يوازي تسليم السلاح


الياس كسّاب
جريدة الحرة ـ بيروت
تولّى “العماد جوزاف عون” قيادة الجيش سنة 2017، على عهد الرئيس ميشال عون الذي وصل إلى الرئاسة بدعم مباشر وصريح من حزب الله، نتيجة تحالف استراتيجي بين “التيار الوطني الحر” والحزب منذ تفاهم مار مخايل سنة 2006، والذي كان من نتائجه المباشرة غطاء مسيحي لحرب 2006، وتلكّؤ ميشال عون الرئيس في طرح أي مشروع جدّي لنزع السلاح أو دمجه، لا بل ساهم عبر إعطاء شرعيّة لهذا السلاح في تمريره لثلاثيّة “الجيش والشعب والمقاومة” في البيانات الوزاريّة لحكومات عهده الذي انتهى إلى فراغ رئاسي طويل!
لم يعلن جوزاف عون “القائد” موقفاً سياسيّاً واضحاً ومباشراً ضد سلاح الحزب في سياسة “حياد مؤسّساتي”، ولكنّه استطاع أن يحافظ على توازنٍ دقيق مع الحزب، واعتمد خطاباً ركّز على حماية المؤسّسة العسكرية وتماسكها، ومنعها من الانهيار، خاصّةً خلال الأزمة الماليّة، والتي أصابت الجيش في عديده وعُدّته، ووازن باحتراف بين احترامه للسلطة السياسيّة وحمايته للمتظاهرين السلميين خلال ثورة 2019، فنال احتراماً دوليّاً ومحليّاً أمّن له تعبيد طريق بعبدا، متمتّعاً بنظافة الكف، ومتسلّحاً بتاريخه العسكري الناصع والجريء.

العماد جوزاف عون رئيس الجمهوريّة “حامي الدستور ورمز وحدة السلطات”
رسم الرئيس جوزف عون صورته منذ اللحظات الأولى لانتخابه عبر خطاب القسَم الواضح والمباشر، فأضحى هذا الخطاب ترجمةً فعليّةً لما يُناط بالرئيس دستوريّاً: هو رمز وحدة السلطات، والمؤتمن على الدستور!
في هذه الوظيفة الدستوريّة للرئيس لا “حياد مؤسّساتي”، ولا تدوير زوايا، فهو، بالقدر الذي يحافظ فيه على فصل السلطات، بالقدر نفسه مسؤولٌ عن رفض أيّ خلل، أو شطط، أو “بلطجة” في هذه السلطات، إنّه “الضمير الدستوري” الذي يحمي لبنان واللبنانيين!
وعليه، إنّ عودة “الترويكا”، تركة نظام الوصاية السوريّة البائدة، مرفوضة دستوريّاً، فقرارات السلطة التنفيذيّة منوطة بمجلس الوزراء مجتمعاً، لا برئيس مجلس الوزراء، وقرارات السلطة التشريعيّة منوطة بالمجلس النيابي، لا بمصادرة المجلس من قبل رئيسه. فمن خطاب القسم، إلى البيان الوزاري، الكل مجمع اليوم على تطبيق الطائف، فلتتحمّل السلطتان التشريعيّة والتنفيذيّة دورهما في النقاش والتصويت، فلا تهريبات، ولا مصادرة، ولا اختصار. على الأقل لِيُطبّق الدستور، ولنصارح اللبنانيين في الأمور المصيريّة، فلا نتقاذف كرة النار، ولا نتكاذب، وبالأخص، لا نتذاكى على المجتمع الدولي، فاللعبة مكشوفة، والنار تعدّت بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء، ووصلت إلى طهران. لقد سقط دور السلاح الاستراتيجي، ودوره في الداخل مرفوض، ولم يعد الغموض السياسي مقبولاً، ورئيس الجمهوريّة ليس مجرّد ساعي بريد لمواقف رماديّة يرسمها اللاعب الإقليمي، بل هو المؤتمن الدستوري على قرارات السلطات، التي بقدر ما يجب أن تكون مستقلة، بقدر ما يجب أن تحتكم للدستور، والرئيس هو الحَكم والفيصل، يرفض ويقبل وفق الدستور، وبموجبه، فأيّة ورقة تفاوضيّة يجب أن لا تكون ورقة “الرؤساء الثلاثة”، بالرغم من التشاور المطلوب، بل ورقة رئيس الجمهوريّة المنوط به دستوريّاً عقد الاتفاقات الدوليّة، ووجوب حيازتها على رضاه الدستوري أولاً.

نزع السلاح مطلب لبناني قبل أن يكون مطلباً أميركيّاً
يحاول حزب الله بسرديّاته الممانعة، وعنتريّاته، ومراوغاته، حفر حفرةٍ للعهد، إذا ما وقع فيها، تجرُّ إلى حوارٍ عقيمٍ مجبولٍ بالكذب والرياء، قد يؤول إلى ما هو شبيه بـ”إعلان بعبدا” على عهد الرئيس ميشال سليمان، الذي، حين احتجّ على تدخّل الحزب في سوريا، تبرّأ الحزب من الاتفاق، وقال للرئيس، واللبنانيّين: “بلّوا واشربوا ميتو”!
نحن نربأ بفخامة الرئيس أن يقع في الحفرة المنصوبة له، في سعيه للمحافظة على السلم الأهلي، وفي دفعِه الشعور بالهزيمة عن نفوس قسمٍ عزيزٍ من اللبنانيين.
ولنتذكّر: إنّ نزع السلاح هو مطلب لبناني، قبل أن يكون مطلباً أميركيّاً، أو دُوليّاً (وفقاً لقرارات مجلس الأمن منذ اتفاقيّة الهدنة وحتى القرار 1701). إنّه مطلب اللبنانيّين قبل غيرهم، لأنّه لم يجلب الحروب والموت والدمار كُرمى لنفوذ إيران فقط، بل كان عاملاً انقلابيّاً في الحياة السياسيّة اللبنانيّة، فمن الاغتيالات، إلى الحكومات التي كانت تُشكّل في حارة حريك، وسنين الفراغ الحكومي والرئاسي، والهجمة على قصر العدل وتهديد القضاة وترهيبهم، وحماية الفاسدين، وجعل لبنان مقرّاً للإرهاب، وتصدير المخدرات، والجريمة المنظّمة… وكلها تُختصر بانقلاب القمصان السود في 7 أيار 2008، والذي ما زال أصحابه يعتقدون، في سورياليّةٍ مفرطة، أنّ مفاعيله لمّا تزل قائمة!
“إعلان بعبدا” انتهى، والاستراتيجيّة الدفاعيّة منوطة حصراً بالوظيفة الدستوريّة للمؤسّسات، فهي التي تضعها، لا بتفاوض مع حامل سلاح، ولا تحت السلاح، فالغايات المُزيّفة أنهت دور الوسيلة!

قطوع برّاك لم يمر بعد
في الوقت الذي تدق فيه ساعة التفاوض الإقليمي، وتُرسم خرائط النفوذ بين البحر المتوسط والخليج العربي، لم يعد الغموض السياسي مقبولاً في لبنان، ولا ازدواجيّة، أو ثلاثيّة، القرار! لقد سقطت رهانات “المقاومات البديلة” على حدود فلسطين، وتقدّمت أولويّات تطويق النفوذ الإيراني في الإقليم، وفي ممرات الطاقة، والملاحة البحريّة!
من هنا، عسى لا يُفهم حرص رئيس الجمهورية على الشيعة ورأيهم ودورهم عودةً إلى توازن بين “الشرعيتين”، كما كان حاصلاً مع ميشال عون، فالرئيس لا يوازن بين حق الدولة بحصريّة السلاح، وبقرار الحرب والسلم، من جهة، وما سُمّيَ “شرعيّة المقاومة” في بيان وزاري، لا في الدستور من جهةٍ أخرى! ورئيس الحكومة لم يعد يكتفي بالإيماء فقط كما في السابق، بل بالموقف الواضح والصريح من السلاح، وعسى رئيس مجلس النواب لا يناور بلعبة الوقت، لأنّ الوقت قد نفذ!
سارعت مصادر القصر إلى إشاعة “الجو الإيجابي” ورضى برّاك على الورقة اللبنانيّة بعد اجتماعه بالرئيس، وفي قراءتي لتصريحه نعترف بدبلوماسيّته المتأنّية والراقية، ولكنّها لم تخلُ من التصويب الخطير والمبطّن، وإذا لم يُعره المسؤولون كلّ الانتباه، فسنُترك على قارعة الإقليم نستجدي خلاصاً!
قال للّبنانيّين: “هناك فرصة مُتاحة”، يعني إذا أُغلِقت “فلاتَ ساعةَ مَندمِ”، وقال أيضاً: “المسار يبدأ من الداخل اللبناني… لا نملي على لبنان… حزب الله مشكلتكم عليكم حلّها… الولايات المتحدة تدعم قراراتكم…”
افهموها بالعربي “المشبرح”، لن يدخلوا في اللعب على الكلام الذي يتـقـنه الرئيس برّي في نحت عناوين عامّة دون قرار! المطلوب واضح، نزع السلاح، ولا استجداء فيه، أنتم مسؤولون، قالها برّاك للّبنانيّين ومشى! فرجاءً لا تسكروا بظاهر الكلام، أُصمتوا، اقرأوا، حلّلوا، فالمطلوب قرار، وأن نبرهن بأننا دولة، ليهبّ العالم لمساعدتنا، وإذا أثبتنا بالعكس أنّنا ما زلنا مزرعة منزوعة القرار، فسيُرسم مصير لبنان ونحن في غفلة!

اقتراع المغتربين للـ 128 نائباً يساوي نزع السلاح
إنّ القوى النيابيّة التي استعملت وهج السلاح، ترغيباً وترهيباً، للانقضاض على السلطة، واستعمال النفوذ لتقويض الإصلاح، في تحالف مع منظومة الفساد، هالتها نتائج الانتخابات النيابيّة الأخيرة في الاغتراب، وهي ترى نفوذها مهدّداً، بعد الهزيمة، والحروب العبثيّة، فانقضّت على حقوق المغتربين الدستوريّة في الاقتراع، خوفاً من اختراق لوائح “محادل” الترغيب والترهيب هذه والمُطبقة على رؤوس المُقيمين.
فإذا كان نزع السلاح يحرّر لبنان من القوى الإقليميّة، فإنّ الصوت الاغترابي يُحرّر الدولة من مغتصبيها، ويصحح التمثيل الديمقراطي بقوّة متمرّسة بالديمقراطيّة والصوت الحر!
إنّ المطارنة الموارنة في الانتشار قالوا كلمتهم في السينودس الذي عقدوه في بكركي هذا الصيف، وهم يطالبون، أسوةً بكافة أطياف الانتشار، بأن يصبّ تصويت المغتربين للـ 128 نائباً في لبنان. لقد نقل أصحاب السيادة هذا المطلب من صراعٍ سياسيٍّ بين نواب وأحزاب، إلى مطلب اغترابي وطني جامع، وهم، إذ سلّموا رئيس الجمهوريّة مطلبهم، آنَ الأوان كي ينتهي هذا النقاش المهين بحق المغتربين، وآن الأوان كي يشعر المغترب أنّه، ليس فقط “جيب” لبنان، بل الأمل المنتشر للتغيير والمستقبل!
سياسي واغترابي/تورونتو
نقلا عن الحرة