بين مطرقة الخمينيّة وسندان الأصوليّة، وضرورة العبور من الإيديولوجيا إلى الإنسان


الياس كسّاب
جريدة الحرة ـ بيروت
كم كان مشهد استقبال جورج إبراهيم عبدالله في مطار بيروت احتفالاً بروتوكوليّاً أجوف، بدل أن تكون عودتُه صحوةً، وضرورةً لمراجعةٍ نقديّةٍ فكريّةٍ وتاريخيّةٍ لدى اليسار (بدأها يساريون كبار كجورج حاوي، سمير فرنجيّة، الياس عطالله، نصير الأسعد، وغيرهم، ولم تكتمل)، وعلى ضوء التحوّلات العميقة التي فتكت بالإنسان اللبناني خاصّةً، والعربي عامّةً.
ولكم كان المشهد سورّياليّاً أيضاً في حشد الممانعين، والذين، ربما، أرادوا أن يبحثوا عن نصرٍ ما في قعر الهزيمة، ودماء رفاق جورج لم تجفّ بعد في الجنوب، حين صادرت رصاصات “المقاومة” المُستجِدّة، وبالدم، رموز من أسسها، لاحتكار “النضال” في خدمةِ المشروع الديني الاستبدادي القائم على الولاء المُطلق للوليّ الفقيه!
إنّ “الرفيق جورج” الذي خرجَ من زنزانته الفرنسيّة الضيّقة، والسجين السياسي الأطول احتجازاً في أوروبا (منذ 1984على خلفيّة جريمة إرهابيّة)، و”المقاوم الأممي”، لم يخرج إلى الحريّة، بل إلى “السجن الكبير” الذي أصبح عليه لبنان، فهو تحوّل، شاء أم أبى، إلى مرآة عاكسة لأزمة اليسار اللبناني: يسار فقد بوصلته، ووقع في شرك الاصطفافات الإقليميّة، عاجزاً عن تقديم بديل فكري ووطني ينقذ لبنان، فهو مُختطف بين مشروع خميني شيعي وسلفي سنّي، يسحقان أي محاولة لبناء يسار حرّ ومستقل.
اغتيال كمال جنبلاط وبشير الجميّل مهّد الطريق لسقوط لبنان
أحبّ كمال جنبلاط العروبة حتى قتلته، (اغتيل في 16 آذار 1977)، ولقد شكّلَ استشهادُه المُنعطف الحاسم في تاريخ “الحركة الوطنيّة” واليسار اللبناني تحديداً، فكان اغتيالاً للمشروع السياسي الذي حاول أن يزاوج بين القوميّة العربيّة والتقدّم الاجتماعي، وبين العلمانيّة والمقاومة، وبين فلسطين ولبنان، وأدخل هذا الاغتيال اليسارَ في مرحلة أفول طويلة، تعمّق فيها التفتّت الداخلي، وتسلّل إليه التوظيف الطائفي، فانحسر الخطاب “التقدّمي” لحساب الشعارات الفارغة والمذهبيّات القاتلة. هذا الاغتيال قطع رأس الحركة الوطنيّة، وأحدث فراغاً استراتيجيّاً في قيادتها، ممّا مهّدَ لتفكيكها، واحتوائها بالانصياع، أو بالقتل، وما استشهاد جورج حاوي إلا خير دليلٍ على ذلك!
ووفقَ “الجدليّة”، فإنّ اليسار اللبناني كان عاملاً مؤثراً، ومتأثّراً، في، ومِن، فكر الخصوم، ونحن جيل السبعينات، بنات وأبناء الحركة الطلابيّة، أكثر من يدرك ذلك. فلطالما توحّدت المطالب الطلابيّة حول الحريّات، والعدالة الاجتماعيّة، وتكافؤ الفرص، وتعزيز التعليم الرسمي، وتطوير الجامعة اللبنانية.. فلقد أضحت هذه المطالب القاسم المشترك، رغم الاختلاف حول الاستراتيجيات الوطنيّة، وخوف أحزاب “الحلف الثلاثي” (الكتائب، والوطنيين الأحرار، والكتلة الوطنيّة) على السيادة اللبنانيّة، والتوجّس من “العمل الفدائي” ومن “اتفاق القاهرة” الذي وُقّع سنة 1969 بين منظمة التحرير والجيش اللبناني.
أَولمْ تصبح “مصلحة طلاب الكتائب” يسار الحزب؟ أَولمْ تُؤسّس “حركة الوعي” في الجامعة اللبنانيّة كثورةٍ من أجل العدالة، تقدّميّة بطروحاتها، ولكنْ مُحافظة وطنيّاً؟!
(للأسف، لم تنقذنا الأفكار المشتركة من وقوع الفتنة، ولقد تيقَّن الجميع، ولو متأخرين، خاصةً بعد اغتيال رفيق الحريري سنة 2005، أنّ المؤامرة كانت على الجميع، وباستنفاد الجميع).
إنّ من كان يستمع لبشير الجميّل في الاجتماعات المُغلقة يعرف أنّه كان ثورةً، ليس من أجل حريّة وسيادة لبنان فقط، بل من أجل الإطاحة بدولة الفساد، ومن أجل الإنسان عدالةً ومساواة، فلقد تجاوزت “تقدّميّته” كثيرين من “الثوريين”! فلا غروَ أنَّه استوعب الجيل الجديد، و”يسار” الأحزاب “اليمينيّة” من “الجبهة اللبنانيّة”.
فإذا كان اغتيال كمال جنبلاط قد شرّع أبواب لبنان للوصاية السوريّة، فإنّ اغتيال بشير الجميّل (في 14 أيلول سنة 1982)، شرّع أبواب لبنان للاحتلال الإيراني، وليس بالصدفة أن يتأسّس حزب الله في السنة نفسها!
بعد الاغتيالين تراجعت صورة المثقّف الملتزم، والنقابي المناضل، لتحلّ محلها صور مقاتلي الطوائف، ورجال الدين، ورموز المال والسياسة الطائفيّة، والجامعات التي كانت ساحات للسجال الفكري تحوّلت إلى معاقل حزبيّة تطيع أكثر ممّا تناقش، والنقابات التي كانت تعبّر عن وجع الناس سقطت بيدِ القابضين على السلطة وقوى الأمر الواقع، فخفت الصوتُ العُمّالي، بلِ انتهى، وأصبح الجميع بدون دور فعلي، تُسقَط علينا القرارات مُبرمة، لا بل إلهيّة، فنُنفّذ، وقد نُستدعى فقط كشهودٍ على زمنٍ مضى!
جورج إبراهيم عبدالله هو هذا الشاهد على زمنٍ مضى، كأقرانه المناضلين من بنات وأبناء جيله، ومن كل الأحزاب والإيديولوجيّات، والذين يُفتّشون عن نقاء القضيّة الذي حجبه غُبار المعارك التي أضحت دونكيشوتيّة، وسيكتشف أنّه، ربما، كان محظوظاً، فلو بقيَ في لبنان لعلّه قُتِل، ولو اعتُقِلَ في سوريا فبالطبع ما كان ليعود، وسيكتشف، بمرارةٍ أيضاً، أنّ العمرَ ضاع في خدمة الإيديولوجيا، وأنّ المطلوب واحِد: أن نكون في خدمة الإنسان!
باحث سياسي واغترابي/ تورونتو